الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
كان يحب الشكر فهو أولى أن يتصف به كما أنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال محسن يحب المحسنين صبور يحب الصابرين عفو يحب العفو قوى والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف فكذلك هو شكور يحب الشاكرين فملاحظة العبد سبق الفضل تشهده صفة الشكر وتبعثه على القيام بفعل الشكر والله أعلم.فصل:قال الدرجة الثانية ملاحظة نور الكشف وهي تسبل لباس التولي.وتذيق طعم التجلي وتعصم من عوار التسلي هذه الدرجة أتم مما قبلها فإن تلك الدرجة ملاحظة ما سبق بنور العلم وهذه ملاحظة كشف بحال قد استولى على قلبه حتى شغله عن الخلق فأسبل عليه لباس توليه الله وحده وتوليه عما سواه ونور الكشف عندهم هو مبدأ الشهود وهو نور تجلى معاني الأسماء الحسنى على القلب فتضيء به ظلمة القلب ويرتفع به حجاب الكشف ولا تلتفت إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها فإنك تجد في كلام بعضهم تجلي الذات يقتضي كذا وكذا وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا والقوم عنايتهم بالألفاظ فيتوهم المتوهم أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات والصادقون العارفون براء من ذلك.وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض واستيلاءسلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية فلا يشهد القلب سوى معروفه وينظرون هذا بطلوع الشمس فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب ولم تعدم الكواكب وإنما غطى عليها نور الشمس فلم يظهر لها وجود وهي في الواقع موجودة في أماكنها وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب قوى سلطانها وزالت الموانع والحجب عن القلب ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف برزت وتجلت للعبد كما تجلى سبحانه سبحانه للطور وكما يتجلى يوم القيامة للناس إلا غالط فاقد للعلم وكثيرا ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات فإن العبادة الصحيحة والرياضة الشرعية والذكر المتواطىء عليه القلب واللسان يوجب نورا على قدر قوته وضعفه وربما قوى ذلك النور حتى يشاهد بالعيان فيغلط فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية فيظنه نور الذات وهيهات ثم هيهات نور الذات لا يقوم له شيء ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي وفي الصحيح عنه «إن الله سبحانه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» فالإسلام له نور والإيمان له نور أقوى منه والإحسان له نور أقوى منهما فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى امتلأ القلب والجوارح بذلك النور لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته كما أن مخلوقاته لا تحل فيه فالخالق سبحانه بائن عن المخلوق بذاته وصفاته فلا اتحاد ولا حلول ولا ممازجة تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا قوله ويعصم من عوار التسلي العوار العيب والتسلي السلوة عن المحبوب الذي لا حياة للقلب ولا نعيم إلا بحبه والقرب منه والأنس بذكره فإن سلو القلب وغفلته عن ذكره هو من أعظم العيوب فهذه الملاحظة إذا صدقت عصمت صاحبها عن عيب سلوته عن مطلوبه ومراده فإنه في هذه الدرجة مستغرق في شهود الأسماء والصفات وقد استولى على قلبه نور الإيمان بها ومعرفتها ودوام ذكرها ومع هذا فباب السلوة عليه مسدود وطريقها عليه مقطوع والمحب يمكنه التسلي قبل ان يشاهد جمال محبوبه ويستغرق في شهود كماله ويغيب به عن غيره فإذا وصل إلى هذه الحال كان كما قيل:
فصل:قال الدرجة الثالثة ملاحطة عين الجمع وهي توقظ لاستهانة المجاهد.ات والتخلص من رعونة المعارضات وتفيد مطالعة البدايات هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها فإن ما قبلها مطالعة كشف الأنوار تشير إلى نوع كسب واختيار وهذه مطالعة تجذب القلب من التفرق في أودية إلإرادات وشعاب الأحوال والمقامات إلى ما استولى عليه من عين الجمع.الناظر إلى الواحد الفرد الأول الذي ليس قبله شيء الآخر الذي ليس بعده شيء الظاهر الذي ليس فوقه شيء الباطن الذي ليس دونه شيء سبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته وعلا فوق كل شيء بظهوره وأحاط بكل شيء ببطونه فالنظر بهذه العين يوقظ قلبه لاستهانته بالمجاهدات ومعنى ذلك أن السالك في مبدأ أمره له شرة وفي طلبه حدة تحمله على أنواع المجاهدات وترميه عليها لشدة طلبه ففتوره نائم واجتهاده يقظان فإذا وصل إلى هذه الدرجة استهان بالمجاهدات الشاقة في جنب ما حصل له من مقام الجمع على الله واستراح من كدها فإن ساعة من ساعات الجمع على الله أنفع وأجدى عليه من القيام بكثير من المجاهدات البدنية التي لم نيرضها الله عليه فإذا جمع همه وقلبه كله على الله وزال كل مفرق ومشتت كانت هذه هي ساعات عمره في الحقيقة فتعوض بها عما كان يقاسيه من كد المجاهدات وتعبها وهذا موضع غلط فيه طائفتان من الناس إحداهما غلت فيه حتى قدمته على الفرائض والسنن ورأت نزولها عنه إلى القيام بالأوامر انحطاطا من الأعلى إلى الأدنى حتى قيل لبعض من زعم أنه ذاق ذلك قم إلى الصلاة فقال: ورد وقال آخر: لم ير القيام بالفرائض إذا حصلت له الجمعية فهو كافر منسلخ من الدين ومن عطل لها مصلحة راجحة كالسنن الرواتب والعلم النافع والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفع العظيم المتعدي فهو ناقص.والطائفة الثانية لا تعبأ بالجمعية ولا تعمل عليها ولعلها لا تدري ما مسماها ولا حقيقتها وطريقة الأقوياء أهل الاستقامة القيام بالجمعية بالجمعة في التفرقة ما أمكن فيقوم أحدهم بالعبادات ونفع الخلق والإحسان إليهم مع جمعيته على الله فإن ضعف عن اجتماع الأمرين وضاق عن ذلك قام بالفرائض ونزل عن الجمعية ولم يلتفت إليها إداء كان لا يقدر على تحصيلها إلا بتعطيل الفرض فإن ربه سبحانه يريد منه إداء فرائضه ونفسه تريد الجمعية لما فيها من الراحة واللذة والتخلص من ألم التفرقة وشعثها فالفرائض حق ربه والجمعية حظه هو.فالعبودية الصحيحة توجب عليه تقديم أحد الأمرين على الآخر فإذا جاء إلى النوافل وتعارض عنده الأمران فمنهم من يرجح الجمعية ومنهم من يرجح النوافل ومنهم من يؤثر هذا في وقت وهذا في وقت والتحقيق إن شاء الله أن تلك النوافل إن كانت مصلحتها أرجح من الجمعية ولا تعوضه الجمعية عنها اشتغل بها ولو فاتت الجمعية كالدعوة إلى الله وتعليم العلم النافع وقيام وسط الليل والذكر أول الليل وآخره وقراءة القرآن بالتدبر ونفل الجهاد والإحسان إلى المضطر وإغاثة الملهوف ونحو ذلك فهذا كله مصلحته أرجح من مصلحة الجمعية وإن كانت مصلحته دون الجمعية كصلاة الضحى وزيارة الإخوان والغسل لحضور الجنائز وعيادةالمرضى وإجابةالدعوات وزيارةالقدس وضيافةالإخوان ونحو ذلك فهذا فيه تفصيل فإن قويت جمعيته فظهر تأثيرها فيه فهي أولى له وأنفع من ذلك وإن ضعفت الجمعية وقوي أخلاصه في هذه الأعمال فهي أنفع له وأفضل من الجمعية والمعول عليه في ذلك كله إيثار أحب الأمرين إلى الرب تعالى وذلك يعرف بنفع العمل وثمرته من زيادة الإيمان به وترتب الغايات الحميدة عليه وكثرة مواظبة الرسول وشدة اعتنائه به وكثرة الوصية به وإخباره أن الله يحب فاعله ويباهي به الملائكة ونحو ذلك ونكتة المسألة وحرفها أن الصادق في طلبه يؤثر مرضاة ربه على حظه فإن كان رضى الله في القيام بذلك العمل وحظه في الجمعية خلى الجمعية تذهب وقام بما فيه رضى الله ومتى علم الله من قلبه أن تردده وتوقفه ليعلم أي الأمرين أحب إلى الله وأرضى له أنشأ له من ذلك التوقف والتردد حالة شريفة فاضلة حتى لو قدم المفضول لظنه أنه الأحب إلى الله ردت تلك النية والإرادة عليه ما ذهب عليه وفاته من زيادة العمل الآخر وبالله التوفيق.وفي كلامه معنى آخر وهو أن صاحب المجاهدات مسافر بعزمه وهمته إلى الله فإذا لاحط عين الجمع وهي الوحدانية التي شهود عينها هو انكشاف حقيقتها للقلب كان بمنزلة مسافر جاد في سيره وقد وصل إلى المنزل وقرت عينه بالوصول وسكنت نفسه كما قيل: ولكن هذا الموضع مورد الصديق الموحد والزنديق الملحد فالزنديق يقول الاشتغال بالسير بعد الوصول عيب لا فائدة فيه والوصول عنده هو ملاحظة عين الجمع فإذا استغرق في هذا الشهود وفنى به عن كل ما سواه ظن أن ذلك هو الغاية المطلوبة بالأوراد والعبادات وقد حصلت له الغاية فرأى قيامه بها أولى به وأنفع له من الاشتغال بالوسيلة فالعبادات البدنية عنده وسيلة لغاية وقد حصلت فلا معنى للاشتغال بالوسيلة بعدها كما يقول كثير من الناس إن العلم وسيلة إلى العمل فإذا اشتغلت بالغاية لم تحتج إلى الوسيلة وقد اشتد نكير السلف من أهل الاستقامة من الشيوخ على هذه الفرقة وحذروا منهم وجعلوا أهل الكبائر وأصحاب الشهوات خيرا منهم وأرجى عاقبة وأما الصديق الموحد فإذا وصل إلى هناك صارت أعماله القلبية والروحية أعظم من أعماله البدنية ولم يسقط من أعماله شيئا ولكنه استراح من كد المجاهدات بملاحظة عين الجمع وصار بمنزلة مسافر طلب ملكا عظيما رحيما جوادا فجد في السفر إليه خشية أن يقتطع دونه فلما وصل إليه ووقع بصره عليه بقي له سير آخر في مرضاته ومحابه فالأول كان سيرا إليه وهذا سير في محابه ومراضيه فهذا أقرب ما يقال في كلام الشيخ وأمثاله في ذلك.وبعد فالعبد وإن لاحظ عين الجمع ولم يغب عنها فهو سائر إلى الله ولا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة ولا يصل العبد ما دام حيا إلى الله وصولا يستغنى به عن السير إليه البتة وهذا عين المحال بل يشتد سيره إلى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده وأسمائه وصفاته ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بالأعمال ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله وهو أعظم ما كان اجتهادا وقياما بوظائف العبودية فلو اتى العبد بأعمال الثقلين جميعها لم تفارقه حقيقة السير إلى الله وكان بعد في طريق الطلب والإرادة وتقسيم السائرين إلى الله إلى طالب وسائر وواصل أو إلى مريد ومراد تقسيم فيه مساهلة لا تقسيم حقيقي فإن الطلب والسلوك والإرادة لو فارق العبد لانقطع عن الله بالكلية ولكن هذا التقسيم باعتبار تنقل العبد في أحوال سيره وإلا فإرادة العبد المراد وطلبه وسيره أشد من إرادة غيره وطلبه وسيره وأيضا فإنه مراد أولا حيث أقيم في مقام الطلب وجذب إلى السير فكل مريد مراد وكل واصل وسالك وطالب لا يفارقه طلبه ولا سيره وإن تنوعت طرق السير بحسب اختلاف حال العبد فمن السالكين من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلب عليه من سيره بقلبه وروحه ومنهم من سيره بقلبه أغلب عليه أعني قوة سيره وحدته ومنهم وهم الكمل الأقوياء من يعطي كل مرتبة حقها فيسير إلى الله ببدنه وجوارحه وقلبه وروحه وقد أخبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنهم دائما في مقام الإرادة له فقال.تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه} وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فالعبد أخص أوصافه وأعلى مقاماته أن يكون مريدا صادق الإرادة عبدا في إرادته بحيث يكون مراده تبعا لمراد ربه الديني منه ليس له إرادة في سواه وقد يحمل كلام الشيخ على معنى آخر وهو أن يكون معنى قوله إن ملاحظة عين الجمع توقظ الاستهانة بالمجاهدات أنه يوقظه من نوم الاستهانة بالمجاهدات وتكون اللام للتعليل أي يوقظه من سنة التقصير لاستهانته بالمجاهدات وهذا معنى صحيح في نفسه فإن العبد كلما كان إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} وتأمل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب في مقام عظم جهادهم واجتهادهم لا كما ظنه بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطريق حيث قال القرب الحقيقي تنقل العبد من الأحوال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان وكأن قائلهم إنما عنى نفسه وذوى مذهبه بقوله:
|